الكتابة وتوابعها - عصر بداية الأسرات

تبدأ العصور التاريخية لكل شعب قديم ببداية إهتداء أهله إلى علامات وإصطلاحات محددة يتفاهمون بها عن طريق الكتابة ويستخدمونها فى تسجيل أخبار حوداثهم الرئيسية وتدوين بعض معارفهم الدنيوية وعقائدهم الدينية ولو بطريق الإيجاز , عوضا عن الإكتفاء بتداولها عن طريق الرواية أو الإكتفاء بالتلميح إليها عن طريق الرسم والرمز إليها عن طريق الأساطير. أو هى تبدأ بمعنى آخر ببداية العصر الذى يحاول أهله أن يكتبوا فيه تاريخهم بأنفسهم ويصفوا فيه أعمالهم للأجيال التى تليهم بأنفسهم
, وتقترن هذه البداية عادة بأحد إعتبارين آخرين أو بكليهما , وهما : بداية إصطباغ حضارة شعبها بصبغة قومية متجانسة , ثم بداية إئتلاف بلدها فى وحدة سياسية مستقرة تهتم بالكتابة وتسجل بها أمورها , وتهتم بشئون الحكم والإدارة وترسيها على أسس منظمة صريحة , وبناءا على هذه الإعتبارات الثلاثة وبناءا على الإعتبار الأول منها بخاصة أصبحت بداية العصور التاريخية لكل شعب قديم بداية إعتبارية محضة تخصه وحده ويختلف زمنها فيه عن زمنها عند غيره من الشعوب , وعن طريقها سبقت مصر غيرها من الشعوب


الكتابة وتوابعها :
توافرت الإعتبارات الثلاثة فى دنيا المصريين منذ أواخر الألف الرابع ق.م , وكانوا قد بدأوا تباشير الكتابة خلال الفترات الأخيرة من فجر تاريخهم القديم , وبدأوها فيما يحتمل بطريقتين : طريقة تخطيطية لم يقدر لها الشيوع, وأخرى تصويرية استمروا عليها , وكانت طريقة تعبر عن الشىء بصورته التقريبية , وتصلح إلى حد ما للتعبير عن الماديات دون المعنويات. ( فيما خلا حالات معنوية قليلة عبرت فيها صورة الذراع عن القوة , وصورة الساقين عن الحركة , وصورة الأذن عن السمع , والعين عن الرؤية وهلم جرا ) , ثم جمعوا إليها علامات إصطلاحية تؤدى غرض المقاطع الصوتية , أى تدل كل علامة منها على مقطع صوتى ذى حرفين أو ثلاثة أحرف , ويمكن أن تعوض النقص فى التعبير عن الأوصاف والمعنويات حين يشترك لفظها مع كلمة معنوية تماثله فى صورته ويدل عليها . واستمروا يزيدون أعداد هذه وتلك وأنواعهما لتفى بمطالب كتابتهم , ثم أضافوا إليها حروفا هجائية بلغت عدتها عند إكتمالها أربعة وعشرين حرفا , وكانت تجاربهم معها هى الخطوات الحاسمة فى تطور كتابتهم , وتصادف أن بدأت عندها عصورهم التاريخية ,وقد اصطلحوا على الكتابة منذ ذلك الحين بخطين دفعتهم روح المحافظة على أن يجمعوا فيهما صور الأشياء والمقاطع الصوتية والحروف الهجائية فى آن واحد , وظل أول الخطين يغلب عليه طابع التصوير المتقن وروح الزخرف , وقد نقشوا به نصوصهم على سطوح اللوحات الحجرية ومايقوم مقامها مما يصلح للنقش عليه من الخشب والأبنوس والعاج وعلى جدران المقابر والمعابد , كما دونوا به نصوصهم الدينية على صفحات البردى , وظل الخط الثانى مختصرا سريع الأداء يعتمد على الصور المختصرة التى تطور بعضها مع الزمن إلى أشكال خطية , وقد سجلوا به شئونهم الحكومية ودونوا به رسائلهم وآدابهم وعقودهم الشخصية وشئونهم اليومية .
ولم يكن الفارق بين الخطين يزيد كثيرا عن الفارق الحالى بين خطوط اللافتات والعناوين وبين خط الرقعة اليدوى السريع , وقد عبر المصريين عن الخطين بكلمة (( سش )) بمعنى الكتابة , وإن ميزوا أولهما فأدمجوه فيما أطلقوا عليه إسم (( مدونثر )) بمعنى أقوال الرب أو الأقوال المقدسة , إشارة إلى قداسة أصله وإكبارا لأصحاب الفضل الأول فى إختراعه , وعندما وفد الإغريق إلى مصر أطلقوا على الخط الأول اسم الخط (( الهيروغليفى )) بمعنى الخط المقدس , وأطلقوا على الخط الثانى إسم الخط (( الهيراطى " يبدو تعريب كلمتى Hiratic and Demotic بكلمتى هيراطى وديموطى , أصح من تعربيهما الشائع بكلمتى هيراطيقى وديموطيقى , حيث تكفى ياء النسبة العربية للتعبير عن مقطع النسبة فى التسمية الإغريقية أو الأوروبية )) بمعنى الخط الكهنوتى , فضلا عن خط ثالث استحدثه المصريون فى أواخر عصورهم القديمة خلال القرن الثامن أو السابع ق.م وجعلوه أكثر إيجازا فى تخطيطاته وصوره من خطهم الثانى وأطلق عليه الإغريق اسم الديموطى بمعنى الخط العام أو كتابة الجمهور , ثم خط رابع استخدمه المصريون بعد اعتناقهم المسيحية , واستعاروا أشكال أغلب حروفه من صور الحروف اليونانية وهو الخط القبطى.

والواقع أنه مهما يبدو للعين المعاصرة من غرابة الكتابة المصرية القديمة التى بدأها أصحابها منذ نيف وخمسة آلاف عام , وسبقوا بها أمم العالم المتحضر القديم فإن هذه الغرابة يمكن أن تقل إذا قدرنا أن الحروف التى نكتبها اليوم عربية كانت أم لاتينية ليست غير تطورات أخيرة لصور قديمة عرف علماء اللغات بعضها وعزت عليهم معرفة أصول بعضها الآخر وحسبنا منها (( f )) و (( Z )) فى الكتابة الأفرنجية السريعة والحرف الأول من الأبجدية العربية الذى هى عبارة عن كلمة من ثلاث حروف أو أربعة وهى (( ألف )) أو (( أليف )) وكان يرمز بصورته الأولى إلى رأس ثور والباء حرفها الثانى الذى رمزت صورته الأولى إلى هيئة بيت وحرف الجيم حرفها الثالث الذى لم يكن غير إختصار لكلمة جمل وإختصار لهيئة رأس الجمل ... وهلم جرا . واهتدى المصريون المبدعون من أهل الفترات الأخيرة للألف الرابع ق.م إلى جانب علامات الكتابة وحروفها إلى تصوير رموز مفردة بسيطة عبروا بها عن العشرات الحسابية ومضاعفاتها أى المائة والألف وعشرة الآلاف ومائة الألف وألف الألف أى المليون , وأفضى إستخدامهم لها إلى سهولة ضرب وقسمة العشرات ومضاعفاتها كتابة وسهولة تسجيل المجاميع العددية الكبيرة فى وحدة مرتبة متصلة تستطيع العين أن تلم بها فى نظرة واحدة , واقترن التطور الفكرى لإبتداع الكتابة والحساب بتطور صناعى لصناعة صفحات البردى البيضاء واستخدام المداد وأقلام البوص الرفيع للكتابة عليها وعلى لخاف الأحجار وكسر الفخار فضلا عن إستمرار نقش النصوص على لوحات الحجر وعلى بطاقات الخشب والأبنوس والعاج وأفضى ذلك كله إلى تيسير تناقل معارفهم من جيل إلى جيل وإلى تنظيم أعمالهم الحكومية وحفظ معاملاتهم الشخصية وتيسير تصميم مشروعاتهم المعمارية