فى العمران والفكر - عصر بداية الأسرات

فى العمران والفكر :
تركزت وجوه النشاط السياسى والدينى فى عصر بداية اﻻ»سرات فى ثلاث مدن كبيرة وهى نخن ونثى وإنب حج , وسوف نكتفى هنا بالحديث عن (( إنب حج )) التى قدر لها أن تشتهر فيما بعد باسم (( منف )) وسوف نستخدم هذا الاسم الاخير للتعبير عنها فيما يلى نظرا لشيوعه.



كانت إنب حج أو (( منف )) ثالثة المدن الكبرى فى عصر بداية اﻻ»سرات من حيث الزمن ولكنها ظلت اوفرها مجدا وابقاها شهرة . وتعددت اﻻ»حتمالات حول ترجمة اسمها الاول إنب حج , فهو قد يعنى الجدار الابيض او الحصن الابيض او اﻻ»سوار البيضاءاو السور اﻻ»بيض ويمكن التعبير به عنها كمدينة بالفاظ شعرية مثل الحوراء والحصن الأبلق …¦ إلخ . أما اسم منف فكان تحريفا لاسم (( مننفر )) الذى جد على المدينة بعد هذا العصر بعدة قرون خلال عصر الاسرة السادسة وكان يخص هرم الملك ببى الاول القريب منها ويصفه بانه الاثر الجميل او اﻻ»ستقرار الاخير , ثم اطلق فيما بعد على المدينة كلها.


نشأت المدينة قرب منطقة ذات تاريخ حضارى قديم , قامت فيها حضارات حلوان وطرة والمعادى الى جنوب القاهرة الحالية فى فجر التاريخ . وكانت تقع غربى النيل وتصلها مياه فيضانه , وقامت لها ميناء نهرية لعلها كانت قرب محطة البدرشين , وان بعدت عنها أطلالها المتاخرة فى قرية ميت رهينة الحالية بنحو ثلاثة كيلومترات . ودل على تحول النشاط الادارى فى منف منذ أوائل عصر بداية اﻻ»سرات ثلالث قرائن وهى : احتفال ملوك العصر ببعض اعيادهم الرسمية واعياد اربابهم فيها , وتاكيد نصوص المذهب المنفى فى خلق الوجود أنها كانت مركزا رئيسيا للفصل فى منازعات العرش والفصل فى قضايا الارباب انفسهممنذ اﻻ»زل القديم , ثم وجود عدد كبير من المقابر الضخمة لكبار موظفى عصر بداية اﻻ»سرات فى جبانتها سقارة , وقد أنشوها بطبيعة الحال قرب مقر أعمالهم . وامتازت من هذه المقابر خمس تحتمل نسبتها الى ثلاثة ملوك من اﻻ»سرة الاولى وملكين من اﻻ»سرة الثانية.


وليس من شك فى ان العامل الرئيسى فى اختيار موقع منف مركزا للنشاط الحكومى فى عصر بداية الاسرات هو وجودها بين النهاية الشمالية للصعيد وبين النهاية الجنوبية للدلتا , وسهولة اﻻ»شراف منها على شئون الوجه البحرى بخاصة . وحاول الاستاذ كورت زيته أن يستنتج مما ذكرته نصوص الدين عنها, ومما رواه المؤرخان هيرودوت وديودور بشانها وسمعاه من المصريين الذين عاصروهما , أن أحد فروع النيل كان يطغى على منطقتها فيجعلها كالمستنقع الكبير ويجعل أرضها أشبه بالجزيرة الطافية أو الأرض الناهضة التى سميت (( تاثنن )) فى النصوص المصرية القديمة . فعمد أول ملوك العصر أو عمد مهندسوه بمعنى أصح إلى تحويل فرع النيل عنها ناحية الغرب , ثم شقوا قناة أخرى عن قرب منها ناحية الشمال , وبذلك جف ما حولها وانصرفت عنها المياه , وتوفرت لها حماية طبيعية مناسبة , فأصبح النيل يحميها من الشرق وفرعه يحميها من الغرب والقناة الجديدة تحميها من الشمال . ولم يكتفى منشىء المدينة لها بالحماية الطبيعية وحدها وانما سورها بسور أو أسوار كبيرة أحاطتها من كل جانب فيما خلا ناحية الجنوب التى واجهت الصعيد فقد ظلت مفتوحة . ويمكن تعليل تحصينها حينذاك بأحد غرضين , فهو قد يكون مجرد إجراء عادى لتعيين حدودها وتمييزها عن المجتمع الريفى المحيط بها شأنها فى ذلك شأن غيرها من المدن الرئيسية فى عصرها . أو يكون تحصينا مقصودا لذاته جعله أوائل ملوك الأسرة الأولى ضمانا لأمن العاصمة من الإنتفاضات المحتملة من الوجه البحرى الذى كان قد أدمج لتوه فى الوحدة السياسية الجديدة تحت زعامة ملوك من الصعيد.


ونسب المصرية الألوهية الكبرى فى منف إلى بتاح , وكان من أوائل المعبودات التى صورت بصورة بشرية منذ ما قبل عصر بداية الأسرات وظل محتفظا بها حتى نهاية عصور التاريخ المصرى القديم . وكان يشاركه شهرته فى مدينته معبود آخر وهو (( سكر )) الذى إعتبره أتباعه من رعاة الحرث والزراعة وتوهموه يسكن تحت الأرض فأصبح من ثم راعيا كذلك لمن يسكنون تحتها فى منطقته وهم الموتى , وكان له مزاره وضرب فقهاء المدينة بسهم وافر فى رقى الفكر والعقيدة , وصور هذا الرقى نص لوحة حجرية عرفت إصطلاحا بإسم لوحة شاباكا وهى لوحة نقشت خلال عصر الأسرة الخامسة والعشرين فى نهاية القرن الثامن ق.م . وجدد كاتبها بإذن ملكه شاباكا نصا قديما كتبه أصحابه على الجلد أو البردى وأوشكت الأرضة أن تأتى عليه , وكان نصا تضمن مذهب مفكرى منف فى نشأة الوجود , وعرف إصطلاحا تبعا لذلك بإسم المذهب المنفى . وربما تجددت كتابته عدة مرات منذ بداية الأسرات حتى ماقبل عهد شاباكا , وإن لم يعثر بعد للأسف على أى من نسخه القديمة.


وكان زعماء منف قد ودوا أن يكفلوا لمدينتهم زعامة الفكر والدين والأدب إلى جانب ما توافر لهم من زعامة الإدارة والسياسة , وابتغوا أن يقنعوا الناس بأنه كان لإله مدينتهم الأثر الأصيل القديم فى نشأة الوجود والموجودات وهو الإله بتاح الذى قد يعنى اسمه معنى الصانع أو الخلاق ولقبوه بلقب (( تاثنن )) بمعنى (( رب )) الأرض العالية الناهضة . فأدلوا بسهمهم فى منافسة وتعديل مذهب الخلق القديم الذى نادت به مدينة عين شمس المجاورة لمدينتهم , والذى تحدث علماؤها فيه عن ماض بعيد لم تكن فيه أرض ولا سماء ولا بشر , وإنما خضم مائى أزلى واسع حوى بين طياته عنصر الحياة لكل شىء وهو (( نون )) الذى خرج منه الإله الخالق أتوم ثم تعاقب بعده بقية تاسوعة المقدس .


وتدبر مفكروا منف عقائد أخرى تتصل بديانة عصرهم وسياسته , ثم خرجوا على الناس بمذهب جديد يصطبغ بالمعنوية أكثر مما يصطبغ بالمادية , وقد جعلوا صلبه الدين وأكسبوه إهاب التاريخ . وردوا فيه خلق الوجود وما إحتواه إلى قدرة عاقلة مدبرة آمرة , وتمثلوا هذه القدرة العاقلة فى إلههم بتاح وأكدوا أنه أوجد نفسه بنفسه , وأبدع الكون ومعبوداته وناسه وحيواناته وديدانه هم قصد منه ورغبة , وأن سبيله إلى الخلق كله كان هو سبيل القلب واللسان أى الفكر والكلمة , فكرة تدبرها قلبه أو عقله وأصدرها لسانه فكان من أمر الخلق ما كان . وكان لفظ القلب عندهم ما يشمله مثله فى اللغة العربية من معانى الفكر والعقل والإرادة والضمير , كما كان يعنى أداة النطق والأمر والكلام . وقد أكدوا أنه عن سبيل القلب واللسان أو الفكر والكلمة , بدأ سعى الأرجلوحركات الأذرع وخلجات الأعضاء , وصدرت الشرائع وتهيأت الموارد وتعينت العبادات , وحق الأمان لأهل السلام وحق العقاب على أهل الآثام . وهكذا إتجهوا بفكرة الخلق والخالق مذهبهم إلى التجريد والمعنوية وعدلوا بها عن مادية التجسيد فى مذهب عين شمس . وأوشكوا أن يرهصوا ببعض ما أكدته الكتب السماوية حين ردوا الخلق إلى القلب واللسان بمعنى الإرادة والأمر واقتربوا بذلك من قول التنزيل الحكيم ( الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) . ولم يعتبروا ربهم خالقا فحسب وانما اعتبروه مشرعا عادلا أيضا . ولم يفسد عليهم سمو تفكيرهم إلا أنهم اعترفوا بوجود أرباب كثيرين إلى جانبه وبرروا ذلك بأنه خلقهم من نفسه وتعهدهم وأمر بعبادتهم والإهتمام بمعابدهم باعتبارهم صورا منه أو أقانيم له . وإن كانت الحقيقة أنهم لن يستطيعوا أن يتخلصوا مما ألفه أسلافهم وورثوه عنهم من عبادتهم .


حفلت مدن عصر بداية الأسرات بعمرانها , وتمثلت قرائن هذا العمران فيما ذكرناه عن أطلال أسوارها وحصونها ومعابدها , كما تمثلت فى رسوم ونقوش مختصرة صورها أهل العصر على آثارهم الصغيرة , ورمزوا ببعضها إلى واجهات قصور ملوكهم وواجهات أسوارها . وكانت قصورا كبيرة فخمة , شيدت من اللبن , واستخدم الحجر فيها على نطاق ضيق لإقامة أعتاب الأبواب وأكتافها وللأعمدة . وتعاقبت فى أسوارها دخلات عميقة تمتد رأسيا بارتفاع جدرانها وتتعاقب على جوانب الأبواب , وتبعد كل دخلة منها عن الدخلة التى تليها بمسافة متساوية , وكان الهدف منها أن تقلل حدة الإستقامة فى واجهة الأسوار المتسعة , وإذا لونت جوانبها وسطوحها الداخلية وزخرفت برسوم النباتات والزهور احتفظت بألوانها أطول مدة ممكنة وخلعت على مبناها صورة بهيجة مستحبة . ومن المحتمل أن الحراس كانوا يستظلون فيها من الشمس ويحتمون فيها من برد الليل حين الضرورة . وتوسط واجهة كل قصر من هذه القصور مدخلان يرمز أحدهما إلى الصعيد ويرمز الآخر إلى الدلتا , أو ثلاثة مداخل : مدخل ملكى رئيسى واسع ومدخلان صغيران على جانبيه .


ويغلب على الظن أن مبانى قصور السراة وكبار الموظفين , كانت على شىء قريب من فخامة قصور الفراعنة , أو على الأقل لم تكن تقل فخامة وضخامة عن مبانى قبور أصحابها التى لاتزال أطلالها باقية . ويبدو أن جدران حجراتها الرئيسية كانت تكسى بالحصير الملون الفاخر الذى يقوم مقام الستائر أو الطنافس الحالية , وأنها كانت ذات حدائق وأحواض ماء داخلية , وتطل على شوارع متقاطعة ممهدة عبرت عن تناسقها رموز المدن المصورة على آثار عصرها . ولم تبق من أمثال هذه المساكن باقية ولاتقتصر هذه الظاهرة على مساكن عصر بداية الأسرات وحده , وإنما تنطبق كذلك على أغلب المبانى الدنيوية فى عصور مصر القديمة كلها , وفيما يعاصرها من مبانى الحضارات الأخرى أيضا , نتيجة لعدة أسباب كان من أهمها : بناء غالبية هذه المبانى من اللبن سريع التهدم , وكثرة إستعمالها مما كان يؤدى إلى إستهلاكها , ثم بناء مساكن العصور المتتالية على أنقاض مساكن العصور السابقة لها . وهكذا لم يتبق شىء منها إلا حيث أدت الظروف إلى هجران بلدة ما لأسباب قاهرة ثم تغطية الرمال والرديم عليها بعد هجرها أو نسيانها . وكانت لاستخدام اللبن فى بناء المساكن ما يبرره فى دنيا الفقراء ودنيا الأغنياء على السواء , فيبرره للفقراء توافره وقلة الكلفة فى البناء به , ويبرره للأغنياء ملاءمته لبيئة الشرق الحارة قليلة الأمطار . واللبن عازل جيد لاتتسرب منه الحرارة الداخلية بسهولة ولايمتص الحرارة الخارجية بسهولة . ثم هى العادة أخيرا اعتادها الناس فى بناء مساكنهم أغنياء وفقراء . غير أنه لم يكن من الطبيعى بناء المسكن كله من اللبن , وإنما كانت أعتابه وأكتاف أبوابه وأعتاب نوافذه تصنع من الحجر كما أسلفنا , واعمدته الداخلية كانت تنحت من الحجر كذلك إذا حملت فوقها ثقلا كبيرا , أو تصنع من الخشب إذا حملت ثقلا خفيفا , أو تبنى من اللبن المكسو بالملاط إذا كان الثقل فوقها بين بين .