المقابر - عصر بداية الأسرات

أما عن بيوت الآخرة وهى المقابر التى كانت تستخدم لمرة واحدة أو تستخدم للدفن مرات معدودة , وتشيد فى مناطق الحواف الصحراوية الجافة وتنحت أجزاؤها السفلى على أقل تقدير فى باطن الصخر, ثم تكتسب بعد ذلك شيئا من الحرمة أو القداسة , فلا زال الباقى منها أكثر من غيرها . وقد انتشرت بقاياها الحالية من عصر بداية الأسرات فى مناطق كثيرة من الصعيدوأطراف الوجه البحرى . واختلف طرازها بعض الشىء فى كل من الوجهين عن الآخر . وكانت أكثرها احتفاظا بأجزائها العلوية هى مقابر سقارة التى سوف نكتفى فيما يلى بعرض خصائصها العامة .



فقد امتازت سقارة بضخامتها واتساعها وبقاء أغلب أجزائها اللبنية العلوية , وتضمنت حجرات قليلة منحوتة فى الصخرحول حجرة الدفن تحت سطح الأرض وحجرات أخرى كثيرة داخل بناء المصطبة فوق سطح الأرض . وتعاقبت فى واجهاتها الأربع دخلات أو مشكاوات رأسية تفاوتت فى إتساعها وفى مدى إتقان بنائها من مصطبة إلى أخرى . ويستنتج من أطلال المصاطب الكبيرةمنها أنه كان يحيط بكل واحدة منها سوران وأن مابين السورين كان يستخدم لأداء الشعائر وتقديم القرابين واجتماع الأهل فى المواسم الدينية والتقليدية . وأن بعض هذه المصاطب كانت تحفر بجانبه حفرةعلى هيئة مركب تليس بالطين أو تكسى بقوالب اللبن , وربما وضعت فيها مركب خشبية حقيقية , وفى هذه الحالة قد تكون المركب الخشبية هى المركب التى نقل أهل المتوفى جثته فيها على النيل ثن آثروه بها وحرموا على غيره ركوبها , أو ربما تكون مركبا صنعت ليوم وفاته ليستخدمها فى عالمه الآخر استخداما يناسبه , كأن يتنقل بها فى أنهار الجنة أو يحج بها إلى مدن الحج العتيقة . ومن الإستثناءات اللطيفة فى هذه المصاطب أن البعض منها غرست فى الأرض أمام واجهاتها رؤوس ثيران ضخمة شكلت من الطمى وزودت بقرون حقيقية , فبدت كما لو كانت تخرج من عالم آخر بعيد أو محيط مائى عميق . ويبدو أن أمثال هذه الرؤوس كانت تعلو أسوار بعض المصاطب أيضا , وأنها كانت ترمز إلى المعبود حاب أحد أرباب منف وسقارة . وثمة إستثناء آخر نفذه أحد المعماريين فى مصطبة رجل يدعى (( نبت كا )) حيث بنى جزءها العلوى على هيئة مسطح أفقى متسع تؤدى إليه درجات متعاقبة طويلة ضيقة من جهاته الأربع جعلت المقبرة على هيئة المصطبة المدرجة . ثم اهتدى غيره من المعماريين فى عهده أو بعده بقليل إلى مرحلتين أخريين من التطور فى بناء المصطبة , وتعمدوا فى المرحلتين أن يدعموا جوانبها ويعملوا على حماية المدخل المؤدى إلى جزئها الأسفل . و نفذوا المرحلة الأولى ببناء إضافة لبنية أحاطت بالمصطبة من كل جهاتها ولكنها قلت ارتفاعا عنها وأزادت سمك أسافل جدرانها . ثم أتموا المرحلة الثانية ببناء إضافة جديدة تشبه الإضافة الأولى وتعتمد عليها ولكنها تقل ارتفاعا عنها . ولما أدت الإضافتان غرضهما العملى , وهو تقوية جوانب المصطبة وحماية مدخلها , ظهر لهما فى مخيلة المعماريين غرض آخر فنى , وهو إظهار المصطبة ذات السطح الواحد بمظهر المصطبة المدرجة ذات السطوح الثلاثة أو ذات الدرجات الثلاث , وذلك مما سيصبح أساس فيما بعد لفكرة الهرم المدرج .


ونسب الأثرى ولتر إمرى خمس مقابر من مقابر سقارة إلى خمسة ملوك من ملوك عصر بداية الأسرات , كما أسلفنا , على الرغم من أنهم من شادوا لأنفسهم مقابر أخرى فى جبانة أبيدوسالمجاورة لمدينة ثنى بالصعيد . وبرر إمرى ذلك بأنه كان لكل ملك مصرى قبران , قبر باعتباره ملكا للوجه البحرى وقبر باعتباره ملك للوجه القبلى وأن كل قبر منهما كان يأخد بإسلوب العمارة وتقاليد الدفن الشائعة فى أحد الوجهين ولما لم يكن من المعقول دفن الملك فى قبرين , كان لابد أن يكون أحدهما قبرا فعليا والآخر ضريحا رمزيا . وذهب عدد من الباحثين فى شىء من التردد إلى أن مقابر سقارة كانت هى المقابر الفعلية وذلك لإتصالها بمدينة منف عاصمة الحكم الرئيسية وأن مقابر أبيدوس كانت مقابر رمزية تشبه المزارات والأضرحة , أقامها ملوك عصر بداية الأسرات قرب مدينة ثنى عاصمة الحكم القديمة وفاءا لها وتأكيدا لاعتزازهم بالانتساب إليها .


والواقع أنه يصعب نفى الرأى السابق كل النفىنظرا لضخامة مقابر سقارة وفخامتها عن مقابر أبيدوس ولكثرة الأتباع المدفونين حولها عن مقابر أبيدوس , وإن أمكن أن يعترض عليه فى الوقت نفسه بعدة إعتراضات ومنها : أ - أن مقابر سقارة أخذت بطراز معمارى متشابه فى مجموعها فيما خلا تعديلات فردية قليلة ولو صح أن بعضها كاننت مقابر ملكية فعلا لتميزت هذه المقابر الملكية عما سواها باتساعها وبإسلوب بنائها . ب - أن المقابر الأبيدية تضمنت نصبا حجرية نقشت عليها أسماء أصحابها وامتازت الملكية منها بضخامتها وصلابة أحجارها ووضوح نقوشها , وبلغ بعضها ذروة عالية فى براعة النقش ومهارة الصناعة ولم تتضمن مقابر سقارة أمثالها . ج - ما سنذكره بعد قليل من أنه عثر داخل المقبرة المنسوبة إلى الملك جر ثانى ملوك الأسرة الأولى فى أبيدوس على ذراع آدمية كفنت بالكتان وتحلت بأربع أساور , ومن المرجح أنها كانت ذراع زوجة جر وأنها هى كل ما تبقى من جسدها , كما أن بعض أختام المقبرة حملت إسمها وألقابها . وإذا صح هذا الترجيح كان معناه أن المقبرة خصصت للدفن فعلا ولم تكن مجرد ضريح رمزى وربما دفن جر نفسه فيها أو بقربها , حيث لم يكن من المقبول أن تدفن زوجته فى أقاصى الصعيد ويدفن هو قرب رأس الدلتا .


واحتفظت بعض المقابر السابقة بما عبرت به عن الشوط الواسع الذى قطعته المهارات الفنية فى عصرها فاحتفظت مقبرة حماكا فى سقارة بعدد من أقراص كبيرة وصغيرة من الألباستر والشست تعتبر بصناعتها ورقتها وزخارفها آية لرقى الصناعة فى عصرها , وصناديق صغيرة مطعمة وسهام وحراب وأوان للمشروبات والزيوت التى اعتقد صاحبها أنه سوف ينتفع بها فى أخراه . واحتفظت مقابر أخرى فى حلوان من نهاية العصر نفسه بكؤوس وطاسات من الصخر البلورى تكشف سطوحها الخارجية عن دواخلها , وانثنت أطرافها إلى الداخل والخارج كما تنثنى أوراق الرسم المقواة الحالية , وبلغت حدا من الرقة والروعة قل أن فاقته صناعة أمثالها فى العصور الأخرى , واحتفظت معها بكأس صغير