الأسرة الأولى والثانية - عصر بداية الأسرات

رأينا كيف تمتع ملوك عصر بداية الأسرات بقداسة نظرية واسعة وسلطان سياسى عريض , نمت عنهما ألقابهم وتمجيد كبار موظفيهم لهم . بيد أنه على الرغم من ذلك كله لم تخل عهودهم من خصومات خفية ومنازعات صريحة بين المستحقين للعرش والطامعين فيه , وربما لم تخل من إضطرابات حدودية أيضاً .


فقد شهدت أواخر أيام الأسرة الأولى خصومة أو أكثر من خصومة أسرية فى عهود فراعنتها الثلاثة الأواخر : عنجإب وسمرخت وقاى عا . وكانت خصومة نم عنها أن رجال سمرخت أزالوا بإذنه أسماء سلفه عنجإب مما وصلت إليه أيديهم من آثاره وآثار أمه مريت نيت . ثم تعمد رجال قاى عا بدورهم أن يمحوا أسماء سلفه سمرخت من أغلب آثاره . وليس من المستبعد أن الملوك الثلاثة كانوا إخوة من أمهات مختلفة , أو كانوا ينتمون إلى فروع مختلفة من الأسرة الحاكمة إدعى كل منهم أحقيته فى العرش دون غيره من الفروع .
ولم تهدأ المطامع على الحكم إلا ببداية عصر الأسرة الثانية التى تسمى أول فراعنتها بإسم يؤكد عودة الإستقرار والهدوء فى عهده , وهو إسم (( حوتب سخموى )) الذى يعنى (( رضى القويان )) أو (( إستقر القويان )) , ويرمز إلى رضا الربين القويين حور و ست بما إنتهت إليه أحوال البلاد فى عهد صاحبه .

وإفترض الباحثون فيى و إدوارد ماير و نيوبرى أن خصومة من نوع آخر حدثت فى النصف الأخير من عصر الأسرة الثانية , وكانت فيما رأوا خصومة سياسية دينية تعصبية فى آن واحد , شذ فيها الملك برإبسن عن سنة أسلافه الذين إعتادوا على أن يصوروا الصقر رمز المعبود حور فوق واجهات القصور التى تضمنت أسمائهم , وتخلى عن الإنتساب إليه , وتعصب للإله ست رب الصعيد القديم , وسمح لرجاله بأن يصوروا ست هذا بتاج الصعيد وصولجانه وبهيئة شبه بشرية على أختامه , ويصوروا رمزه فوق صورة قصره عوضا عن رمز حور , وذلك مما يعنى فى إعتقاد أولئك الباحثين أنه أراد أن يؤكد للناس أنه وريثه دون غيره وأنه لايعترف بالفضل لمن سواه , وأنه تخلى عن الإنتساب إلى حور نتيجة لخصومة عنيفة بينه وبين مناطق الدلتا التى تعصب أهلها لربهم القديم حور .
ولاتخلو هذه التخريجات كلها من وجاهة , ولكن نضيف إلى جانبها أننا إستشهدنا فى كتابنا عن حضارة مصر القديمة وآثارها , بآثار أخرى متفرقة يمكن إرجاعها إلى عهد الملك نفسه قد توحى بأن الرجل لم يكتف بأن ينتسب فى صوره إلى المعبود ست وحده , وإنما إنتسب فى أحد أسمائه إلى المعبود حور , ولو لفترة ما من حكمه , ومجد إلى جانبهما إله الشمس أيضا بإعتباره أحد من تولوا رعاية عرش البلاد المقدس القديم . ولو أننا لا نستطيع أن نقف بقضية برإبسن عند هذا الحد , فقد ظلت شبهاتها باقية بعد وفاته , وأرخ رجال خليفته (( خع سخم )) لأحد أعوام حكمه بإسم عام الحرب وإخضاع الدلتا , وصوروا الربة نخابة حامية الصعيد تستقر بساقها اليسرى فوق دائرة تشبه الختم , وتقبض بمخلبها الأيمن على نباتى الصعيد والدلتا متعانقين وتتقدم بهما إلى إسم الملك الذى حل فى المنظر محل صورته ونقش داخل سرخ وقف فوقه صقر يرمز إلى المعبود حور بتاج الصعيد , دلالة على سيطرته على الوجهين واجتماعهما تحت طاعته وطاعة ربته الحامية . وصور أحد فنانى الملك نفسه على قاعدتى تمثالين صغيرين له أعدادا من أسراه وقتلاه , وصور معهم نبات البردى الذى يرمز عادة إلى أراضى الدلتا .

وبالجمع بين أطراف هذه المشكلة فى عهدى برإبسن وخع سخم ظهر رأى جديد يمكن أن نرتب من ناحيتنا الجوانب المقبولة منه بأنه حدث فى عهد الملك نى نثر السابق لعهد برإبسن والذى حكم ما بين عشرين وثلاثين عاماً وكان مصلحاً , أن هاجم بعض الليبيين أرض الدلتا وإحتلوها عنوة , وانفصلوا بها عن الصعيد . فلما أعقبه برإبسن لم يحكم غير الصعيد , ولكنه إعتزم الكفاح وتسمى بإسم (( سخم إب )) أى الجسور , وتلقب بلقب يعنى معنى (( الذى خرج للحق )) أو معنى (( انبعث النظام )) , واستمسك فى أغلب أحواله برب الصعيد ست بإعتباره من أرباب الحرب ( وربما استنصر معه من أرباب مصر الكبار الإلهين رع وحور ) واحتفظ لنفسه بلقب نيسوبيتى ولقب نبتى , أى ظل يحتفظ بانتسابه إلى شعار الدلتا وربتها إلى جانب شعار الصعيد وربته . ولكنه لم ينته فى كفاحه إلى شىء , فخلفه خع سخم واتخذ ثوب ممثل حور واستنصره , ولم يجد بأساً فى أن يعترف بالأمر الواقع فى بداية حكمه , فظهر فى تماثيله بتاج الصعيد وحده , وصور رجاله المعبود حور بتاج الصعيد تارة وبلقب حور السماء تارة أخرى . ثم هاجم أراضى الدلتا وقاتل الليبيين المسيطرين عليها قتالا عنيفا حتى انتصر عليهم فى نهاية عهده , وعندما أراد رجاله أن يعبروا عن انتصاره عليهم أشاروا إلى الدلتا باعتبارها الأرض التى كان الليبييون يحتلونها وليس باعتبارها وطنهم الأصيل أو أرض الخصوم الفعليين .

وأخيراً أكد الفرعون خع سخموى آخر فراعنة الأسرة الثانية إتمام وحدة البلاد فى عهده , بأكثر من وسيلة . فصور له رجاله المعبودين حور وست فوق صور واجهة القصر التى تضمنت اسمه دلالة على تآلفهما وتأكيدا لغنتسابه إليهما . وتصرف الفنانون فى تصويرها عنده بأوضاع مختلفة , فصوروهما متقابلين متقاربين يكاد كل منهما يُقَبِل الآخر دلالة على المحبة بينهما , وصوروهما على هيئة صقرين إشارة إلى أن صورة كل منهما يمكن أن تدل على صورة الآخر , أو إشارة إلى اجتماع شمل حور الصعيد وحور الدلتا مرة أخرى . وقد سجل خع سخموى وحدة الربين والوجهين عن طريق إسمين من أسمائه , وهما : (( خع سخموى )) الذى يمكن ترجمته بمعنى شع القويان أو تجلى القويان , وقد يكون القويان هما الصعيد والدلتا أو معبوديهما , والإسم الآخر اسم مركب يمكن ترجمته بمعنى (( إطمأن السيدان به )) , والسيدان هنا هما حور و ست ربا الصعيد والدلتا . غير أنه على الرغم من منطقية القرائن السابقة عن أحداث النصف الثانى من عصر الأسرة الثانية , لاننكر أن حقيقة الأوضاع فيه لازالت مشوبة بشىء من الغموض , ولازالت تتطلب قرائن أثرية جديدة تجلو غموضها .

وعلى أية حال فإنما ننتهى من هذه المشكلات كلها إلى أن عصر الفراعنة الأوائل الذين نسبتهم نصوصهم إلى الأرباب وصورت لهم قداسة واسعة , لم تخل مما يحدث عادة فى مختلف الشعوب ومختلف العصور من تنازع أسرى وشقاق داخلى ومتاعب قومية , لولا أن أيام ذلك التنازع وهذا الشقاق وتلك المتاعب كانت لحسن الحظ قصيرة وقليلة , بل بالغة القصر والقلة إذا قورنت بأمثالها فى حياة الشعوب القديمة الأخرى , وظلت أيام الإستقرار والسلام والوحدة هى الغالبة , وبلغت البلاد فى ظلها بحكامها ومحكوميها ما بلغته من الرقى النسبى فى الفكر والمادة , والإتساع النسبى فى النشاط الداخلى والخارجى معا .